لو لم يكن هذا الطنين

 

 

"غادرنا يوم الخميس. أبقتنا الآلة على اطّلاع دائم على التاريخ الجاري. كان مرور الوقت مهمًّا. ليس لنا، بالتأكيد، ولكن له… لهم… آم. يوم الخميس. شكرًا".

في رواية هارلن إليسون القصيرة من عام 1967، "ليس لدي فم ويجب عليّ الصراخ"، أبقى الذكاء الاصطناعي الذي سيطر على الكوكب ودمّر البشرية البطل وأربعة آخرين على قيد الحياة لتعذيبهم إلى الأبد.

تتمثّل إحدى طرق التعذيب الأساسية لـ آم في الإعلان عن التاريخ كل يوم، ليعرف سجناؤه الوقت الذي قضوه هناك بالضبط.

تبدأ القصة في العام 109 من السجن.

 

 

كانت الدماء تتدفّق من وجهي المكسور، وتملأ أحشائي.

كانوا يطلبون الدفعة الأولى.

 

وحدة العناية المركّزة مكانٌ قاسي للمرضى غير المحظوظين الذين لُعنوا بساعات حائط في حجراتهم أو بوجود واحدة على مرأى منهم من خلال أبوابهم الزجاجية في محطة الممرضات.

 

مكان خارج الزمان، خارج المكان. لا تعرفين متى ستغادرين. حتى لو أتى الخروج من خلال الموت.

في بعض الأحيان يمكن أن يبقيك هذا المكان إلى أجلٍ غير مسمّى، عادةً بسبب عطل أو سوء تقدير أو حادث بيروقراطي أو عدم قدرتك على دفع الرسوم كاملة. وحدة العناية المركّزة عبارة عن مساحات محدودة ذات فترة انتقالية مدمجة وغير واضحة ولا نهائية.

 

ماذا يحدث عندما تكون وحدة العناية المركّزة في لبنان؟ ماذا يحدث عندما ترفض شركة التأمين الصّحي تغطية نفقات العلاج؟ ماذا يحدث عندما يكتشفون أنك فلسطينية؟ ماذا يحدث عندما يتمّ طلب الدفعات من العائلة والأصدقاء القلقين بشكل يومي؟ قبل وبعد كلّ إجراء؟ ماذا يحدث عندما يبلّغ المستشفى السلطات؟

 

يمكن أن يتحوّل مرأى الساعة إلى لعبة. لعبة عدم النظر. لا تنظري إلى الساعة! كم من الوقت يمكنك الاستمرار دون النظر؟ حاولي عدم النظر إلى منظّم الحرارة. حاولي ألّا تجري تواصلاً بصريًا مع الممرضات المارّات. حاولي ألا تنظري إلى كمية محلول الملح المتبقّي في الكيس المعلّق فوقك. حاولي عدم النظر إلى أي شيء يشير إلى مرور الوقت ببطءٍ مملٍّ.

 

لا تكون درجة حرارة المكيّف صحيحة أبدًا. رعشات أو تعرّق. شديدة البرودة أو شديدة السخونة دون سبب واضح. لا يوجد مناخ هنا، فقط درجة حرارة. تتغيّر درجات الحرارة ولكن لا تغيّرات في المناخ. لا تغيّر مناخي هنا. لا يوجد مكان. لا إرادة شخصية. لا تغيير حقيقي. "لا وقت هنا، ليس بعد الآن".

 

في كثير من الأحيان، لا يوجد حتى أي ألم. أين ذهب الألم؟ المهّدئات المنقّطة في الوريد تعتني بذلك. الممرضة تعتني بك. يتمّ توفير الرعاية هنا، بل فرضها٬ ولا يتمّ مشاركتها. الرعاية ليست اختيارية، بل هي مفروضة.

"قدم واحدة عالقة في حفرة قطران تصرّفاتي"

“One foot stuck in the tar pit of my ways”

(Solace by Earl Sweatshirt)

 

إذا تمكّنتي من عدم الموت عند باب المستشفى، أو بمجرد دخولك، فأنت هنا حتى إشعار آخر، أقرب إلى الأبد. يتمّ فرض الرعاية هنا. الوقت غائب. الفضاء لا معنى له.

 

خلال النهار، يجري الوقت بوتيرة أسرع قليلاً. يعمل المكان مثل أي مؤسسة عامّة. جري، دردشة، رنين، طنين، انتظار. زيارات وأكياس هدايا وباقات ورود.

ينفد الوقت على كادر المشفى دائمًا. الوقت ينفد دائما بالنسبة للموظفين. لا يمرّ الوقت بالنسبة للمرضى أبدًا. خلال النهار، تنبض الحياة في هذا المكان القريب جدًا من الموت. لكن في الليل، يتحوّل المستشفى إلى منزل مهجور من الرعب.

 

 

زيارات متعدّدة من الراهبة للبركات المستعجلة

بعد عدّة عمليات جراحية مُجَدولة ومعاد جدولتها.

أعتقد أن كلفتي غطّت الراحة السماوية.

 

في الليل، تأخذ وحدة العناية المركّزة بعدًا آخر بالكامل. هدوء تام. باستثناء صوت الطنين الخافت للآلات والممرضات الوحيدات اللواتي ينمن في محطتهن. يتمّ فحص علاماتك الحيوية وتغيير كيس المحلول الملحي عدة مرات طوال الليل. تأرجحك بين داخل وخارج الترنّح الذهول.

لكن في بعض الأحيان حتى هؤلاء غائبون. خاصة عندما تخفف المهدئات حواسك إلى الحد الأدنى. الكثير من النوم، ولكن أيضًا الكثير من اللحظات العابرة بين اليقظة والنوم.
خلال هذه الحالة، من الشائع تجربة الهلوسة البصرية والسمعية والشمية، بالإضافة إلى أشكال أخرى من الهذيان. تحدث الأشياء في الليل في هذه القاعات خارج المكان، خارج الوقت. وغرف وحدة العناية المركزة هي الآن مساحات مغلقة بقوة حيث نادرًا ما يدخل أو يخرج أي شخص أو أي شيء، ولكن ببساطة، ينفجر إلى الوجود.

 

 

أشكال، أصوات، ومضات، أجساد٬ كيانات، طلاء، عواطف، روائح. كرات بينج بونج، أجسام هزيلة٬ بقع دماء، قطط فاقدة للشهية. الإحساس بوجود غريب في غرفتك الانفرادية. عالم آخر وراء هذا العالم يحاول إظهار نفسه.

 

يسألني أحد الممرضين اللطيفين إذا كنت أشجّع فرنسا في نهائي كأس العالم

لا أستطيع التحدّث، ولا أهتمّ بكأس العالم

لكنني أومأت برأسي أدبًا وتقديرًا لمحاولته تذكيري بأنني ما زلت موجودة في العالم خارج هذه الغرفة

 

بعد عامين قرأت دراسة قالت إن ثلث إلى أكثر من 80 في المائة من مرضى وحدة العناية المركّزة يعانون من الهذيان أثناء إقامتهم في المستشفى. ويعاني ربع مرضى وحدة العناية المركّزة من اضطراب ما بعد الصدمة بمجرد مغادرتهم، وهو معدل يمكن مقارنته بتشخيص اضطراب ما بعد الصدمة بين المحاربين القدامى وضحايا الاغتصاب.

 

لا شيء يدخل وحدة العناية المركّزة أو يخرج منها في الليل، ولكن الأشياء تظهر وتختفي. غالبًا ما تبقى حتى طلوع الفجر، وأحيانًا تبقى أثناء النهار، مختبئة بين الجري٬ والدردشة، والرنين٬ والطنين، والزيارات، والهدايا، وباقات الورود. ومضات من الذاكرة.

 

استغرق الأمر منّي بعض الوقت لأستطيع تصنيف أجزاء إقامتي "الحقيقية"، أو بالأحرى من خارج وحدة العناية المركّزة، والتي انبثقت للوجود وماتت هناك.

 

 

 

تمّ انتاج هذه الحلقة بالتعاون مع مؤسّسة هاينريش بُل – مكتب الشرق الأوسط، بيروت

Shavi Lortso

Shavi Lortso is an inactive character fluked into existence through failed attempts at creating a relatable, contemporary superhero. Its limb design was too ambitious and its skin too thin, so immediately upon assembly, it collapsed on itself and turned into black sludge. It serves as a digital ink substitute in some cyber spaces. 

El Kontessa

El Kontessa is the stage name of Cairo-based producer, DJ and multidisciplinary artist Fajr Soliman. She experiments with Egyptian Pop and Mahraganat music elements. In her production and Dj-set, she deconstructs familiar/nostalgic sounds, adds textures, and blends it with Cairo's soundscapes, giving them fresh and astonishing results akin to a live set.

Since El Kontessa's musical debuts in 2018, she has performed live shows in Egypt, Tunis, Switzerland, Lebanon, Germany and Jordan. Also, she has been part of essential lineups in various venues and festivals such as: 'Fête de la musique au Caire' by the French institute, Fri-Son Club, Fribourg, Switzerland, and Stuttgart Festival, Germany.

El Kontessa is featured on prestigious media and streaming platforms worldwide, such as Nyege Nyege Festival, Boiler Room and Vice magazine, and radio stations such as NTS, Rinse FM, Movement Radio and Noods.

Her work as a visual artist is a nexus of digital painting, street art, and design and focuses on themes surrounding the female psyche and women in public spaces. She has exhibited in Cairo, Copenhagen, Napoli, Los Angeles, and more.